من الصعب تناول موضوع سوريا دون أن يرافق ذلك شعور بالانزعاج نتيجة نقص المرجعية التاريخية في التحليلات المختلفة التي قرأتها بمناسبة الذكرى السنوية لسقوط بشار الأسد يوم 8 ديسمبر 2024، بعد 53 سنة من النظام الشمولي الأسدي. وبالرغم من أنني لست خبيرة في الشأن السوري، لكنني، كالعديد من المهتمين بمنطقة أفريقيا الشمالية والشرق الأوسط، لدي معرفة عامة عن أهمية هذا البلد في التاريخ
وعندما ترجع سوريا إلى مقدمة الأخبار لأسباب غير مرتبطة بالحرب، يرجعني الإحساس بنوع من الانجذاب المغناطيسي لهذه المنطقة الذي يذكرني بملايين الأسئلة التي تعاقبت في ذهني في الماضي حول تأثير الأمويين على الفكر القانوني و الآثار الموجودة في دمشق عن سفر ابن خلدون وحياة الأمير عبد القادر ونشأة الأيديولوجية البعثية العلمانية في سياق الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. و قريبا مانسيت هذه التساؤلات في خضم التغطية الإعلامية للحرب الأهلية التي شنّها بشار الأسد للبقاء في السلطة، و التي أسفرت عن مقتل أكثر من 500,528 شخصًا بين 2011 و 2024، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى نزوح ما لا يقل عن 6 ملايين شخص خارج سوريا و نحو 7 ملايين آخرين داخل البلد، حسب منظمة الأمم المتحدة
وبعد قراءة عدة مقالات، يبدولي أن من ناحية التفكير عن امكانيات ترسيخ مسار ديموقراطي، فإن الإشكالية الأساسية اليوم تدور حول كيفية تحقيق مشهدًا سياسيًا داخليًا يحقق المواطنة في سوريا، بعد أن تم تشتيت أرضها وشعبها تحت الديكتاتورية و في ظل صراعات جيوستراتيجية تتداخل فيها مصالح اقتصادية وأمنية ودينية متناقضة
تحديات داخلية جسيمة
حسب ما كتبه الكثير من الصحفيين والخبراء والأكاديميين المهتمين أو المختصين بالشأن السوري، فلا جدال حول واقع التحديات الجسيمة التي تواجهها البلد على مختلف المستويات تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع وحركته « هيئة تحرير الشام » التي أطاحت ببشار الأسد
فعلى الصعيد الاقتصادي، علاوة على التكلفة الباهظة المتعلقة بإعادة بناء بلد دمره القمع الوحشي والتدخل العسكري الأجنبي، فإنّ 90 بالمئة من سكان سوريا، الذي يبلغ عددهم 24 مليون نسمة، يعيشون في حالة من الفقر، حسب أرقام برنامج الأمم المتحدة للتنمية. ولم تتمكن السلطات الجديدة من تعزيز خزائن الدولة للتصدي لهذه الظاهرة، بل انتهجت سياسة اقتصادية ليبرالية تتجلى في تقليص الضرائب على المنتجات المستوردة مثلا. وتستفيد من تلك القرارات الطبقة الغنية وبعض الحلفاء الخارجيين مثل تركيا، بينما تبقى الغالبية العظمى من المواطنين تعاني من حياة يومية صعبة
أما على الصعيد الحقوقي، فقد تعرضت الحكومة الانتقالية لانتقادات شديدة بسبب فشلها في الحد من الانتهاكات لحقوق الإنسان عند استعمالها للقوة المفرطة وغير القانونية ضد الأقليات، مثل العلويين في الساحل والدروز في مدينة السويداء، مما أسفر عن سقوط آلاف الضحايا. ولم تتمكن الحكومة من إنشاء مسار للعدالة الانتقالية يتماشى مع المعايير المعترف بها في القانون الدولي، وهذا ما يعكس صعوبة قبول حركة « هيئة تحرير الشام » ، التي استخدمت العنف كوسيلة للوصول إلى الحكم، فكرة عدالة معنية بانتهاكات حقوق الإنسان تم ارتكابها خلال فترة قد تعني قيادة هذه الحركة، بما في ذلك أحمد الشرع نفسه. وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال تشكي الكثير من منظمات المجتمع المدني، التي قد تلعب دورا مهما في حلّ هذه القضية، من تهميشها من القرارات التي تعنيها، أو إشراكها بطريقة سطحية في حوارات لا تتبعها أفعال ملموسة
وعلى الصعيد السياسي، قام أحمد الشرع وفريقه بتفعيل مقترح منظومة سياسية تقوم على عدة مكونات. أولاً، تم الإعلان عن دستور إنتقالي في 13 مارس 2025، يتكون من 53 مادة مكتوبة بطريقة ملخصة ومختصرة، دون أي ضمانات لتطبيقه في غياب محكمة دستورية، التي حتى لو تم تأسيسها، ستكون تحت قبضة الشرع الذي يعين جميع أعضائها. ثانياً، تم تشكيل حكومة انتقالية في 29 مارس 2025، ومعظم أعضائها مقربين من الرئيس. وأخيراً، تم إجراء انتخابات تشريعية يوم 5 أكتوبر 2025 للتصويت على ثلثي أعضاء البرلمان (الثلث الباقي سيعينه أحمد الشرع)، مع اختيار نظام الإقتراع غير المباشر يعكس ميول الحكومة الانتقالية نحو مقاربة « نخبوية » قد تطرح تساؤلات حول تمثيلية مكونات أخرى من المجتمع. ويهدف مجلس النواب إلى وضع دستور جديد لسوريا قبل خمس سنوات. والجدير بالملاحظة أن جميع هذه المؤسسات تقوم على توجيهات رجل واحد هو أحمد الشرع، الذي لم ينتخب بطريقة ديمقراطية
الديناميكيات الاقليمية و عواقبها السلبية
في ظل هذه التحديات العديدة، يمكن استيعاب الهشاشة الداخلية التي تعيشها سوريا، والتي تساهم في تفاقم الانعكاسات السلبية الناجمة عن وجودها في موقع جيوستراتيجي ملتهب، تتصارع فيه أنظمة سياسية ذات الطابع الديني أساسًا. وفي هذا السياق، الجدير بالذكر أنه جاء في إعلان الدستور الإنتقالي أن للفقه الإسلامي دورًا مرجعيًا. وبما أن دور البعد الديني مهيمن على جيوسياسية المنطقة، فلا شك أنه ستعاني بنية دولة قانون قائمة على نظام ديموقراطي، من الدور الذي يلعبه الدين كركيزة ايديولوجية لأنظمة ثيوقراطية أو استبدادية في جوار سوريا
و رغم ذلك، فعلى المستوى الدولي و خاصة في الغرب، يبدو أنه يحظى أحمد الشرع ذو الماضي السياسي الاسلاموي المتطرف، بمعاملة استثنائية لم يتحصل عليها رجل سياسي عربي آخر ناجم من ثورات ما سُمي بالربيع العربي. فهكذا أصبح اليوم الشخصية المركزية الوحيدة التي تُعزى بجدارة رفع العقوبات عن سوريا من قبل بلدان كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. ومن خلال تعدد مقابلاته مع الصحافة الدولية أو مشاركته في منتديات، تمكن الشرع من التعبير عن رؤيته برزانة ولطف وهدوء، مؤكدا أنه في الحكم لفترة انتقالية فقط، و أن بلده في حاجة الى قيادة كفؤة قبل كل شيء، و أنه من الضروري حماية الأقليات والمدنيين و ايقاف اسرائيل من هجوماتها الدائمة بالاضافة الى احتلالها لمنطقة الجولان
ويمكن فهم ذلك في اطار تراجع الثقافة الديموقراطية في الغرب، بالإضافة إلى التحالفات المعتادة القائمة على المصلحة عندما يتعلق الأمر بقادة الدول الأفريقية أو الشرق أوسطية، الذين يتفقون على حماية مصالح معينة. حينما يشعر البعض بالقلق إزاء لعبة التوازن الذي انتهجها أحمد الشرع لتوجيه السياسة الخارجية السورية في اطار نفوذ خارجي متعدد، قد يعرقل المسار الداخلي لسوريا نحو التغيير الديموقراطي. فمثلا، لقد وافق الشرع على الحفاظ على القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم لمواكبة بوتين، رغم الدمار الذي سببه التدخل الروسي في 2015، أملًا ربما في وجود طريقة لإعادة تسليح سوريا. وفي الوقت نفسه، خصص الشرع زيارته الأولى إلى المملكة العربية السعودية ذات النظام السياسي الوهبي غير الديموقراطي، وتحصل على تمويل من الرياض، بالإضافة إلى وساطتها في التعامل مع الولايات المتحدة. ولإدارة بعض الاضطرابات الداخلية، فقد اقترب الشرع بتركيا ورئيسها الأوتوقراطي للتعامل مع قضية الكرديين المتمردين بهدف الحد من نفوذهم
على أي حال، ورغم كثرة المخاطر حول المرحلة الانتقالية، فلنأمل أن الشعب السوري سيتمكن من خلق مصير أعظم من كل ما قد يعرقله في الماضي والحاضر، مستشهدا بكبار مثقفيه و منهم الشاعر أدونيس الذي كتب في « سياسة الشعر »: «فالإنسان ليس ما كان وحسب، وهو أكثر مما هو عليه: الإنسان، جوهريًا أعظم من ماضيه وحاضره، لأنه خالق لمصيره: يصنع نفسه، باستمرار، ويصنع العالم كذلك، باستمرار.»
